أحداث سوس
اعتقد الإثنوغرافيون الفرنسيون منذ بدايات القرن العشرين، أن مسخرة “ بوجلود ” تتعلق ببقية طقس ما قبل إسلامي يرتبط بعبادة الطبيعة والإيمان بقدسية الحيوان والنبات، وكانوا ينطلقون في ذلك من سؤال مركزي هو: كيف يمكن التوفيق بين ما هـو إسلامي وما هو سابق على الإسلام ؟
الاستعداد للاحتفال :
وقائع الاستعداد للاحتفال بطقس “بوجلود” تجري في ملحقة المسجد : حيث يتم تعيين شخصيات التقنع الأساسية وتنكيرها. ويعد بلماون، وهو شبه حيوان فاحش ذو قائمتين، الشخصية الرئيسية؛ يتنكر بفراء الحيوانات المنحورة في الصباح، ويتقمصه عادة رجل من القرية: “ يتجرد من جميع ملابسه باستثناء السروال القصير .
ارتداء الفراء :
يرتدي الشخص الفراء مباشرة على لحمه دون أن تغسَلَ أو تنظف، تخاط عليه أولا الفراء التي ستشكل سرواله، ثم يلصق وراءه خصيتي الحيوان وقضيبه، بحيث يتدليان فوق عجيزته وبعد ذلك، يُخاط على أعلى جسمه فروان آخران يغطيان نصفه العلوي ويتصلان بالسروال على امتداد القامة ، كما تغطى ذراعاه ويداه أيضا ويشد إلى يده اليمنى عنزا بواسطة حبل متين ووسط صدره يتدلى نهد ضخم؛ أما رأسه، فهو رأس أضحية ذات قرنين. ونظرا للطبيعة الفاحشة لهذه الشخصية، فإنها ستشدد طوال مراحل التقنع على تعرية الأوصاف الجنسية. أما باقي الشخصيات، فتتكون من أربعة يهود، ضمنهم حبر واحد، يحملون أقنعة مشنقية ويرتدون بدلات متجانسة، ورجل مسلم، وستشكل هذه الشخصيات حرَس بلماون.
إحاءات ولعب بلماون :
الحلقة الثانية من الاحتفال تتضمن تسكعا احتفاليا في طرقات القرية، حيث تضاعف الشخصيات مناوشاتها وإثاراتها الجنسية للمارة عن طريق الكلمات والحركات، وبذلك يضطر الجميع إلى الدخول في اللعبة.
الولوج للمنازل :
يلج موكب بلماون المنازل التي هي “مجال النساء”، ويكون الرجال قد غادروها قسرا بهذه المناسبة، ثم يتعاطى فيها لإثارات كلامية ” ذت دلالة جنسية .
تسلم الهبات لبيلماون :
ويستلم الموكب من النساء هبات من الطعام كمقابل، و فوق سطوح المنازل تحاكى مشاهد الجماع… وتوازي المرحلة المركزية في العلبة الثالثة، المسماة “الأشكال والأيام”، بين عرض الإعداد للحرث عبر “تجديد سكة المحراث” وعرض كاريكاتور لزواج بلماون بامرأة حيث يتم الاحتفال بالخصوبة في سخرية.
إنشاد اللازمة :
تنشد متتالية تتخللها اللازمة : “اللهم اجعل العام جيدا”؛ أما العلبة الرابعة، وتحمل اسم “المجلة”، فهي تحاكي الوقائع المحلية التي شكلت أحدوثة سكان القرية في السنة المنصرمة.
تاريخ العصر الرعوي :
يرى لاووست أن بيلماون الذي يلقب غالبا ب”هَّرْمَة” يمثل في الأصل الإله-الكبش الذي عبده الأمازيغ حينما كانت مجتمعاتهم تعيش عصرا رعويا؛ الإله الشائخ يضحى به بشكل منتظم قبل أن يبعث من جديد في شكل حيوان قوي؛ وقد بينت في الفصل السابق حول “طقس الطبيعة في المغرب القديم”، أن فكرة “الإله-الكبش” تبقى نظرية لم تثبت حتى اليوم، وأن المعطيات المادية الآثارية لم تقدم أي شيء مقنع في هذا الاتجاه، وهو ما يجعلنا نطرح مسألة استناد الدراسات الإثنولوجية الغربية على افتراضات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع التاريخي. ورغم أن المسخرة ترتبط بعيد النحر الإسلامي فذلك لا يعني الشيء الكثير بالنسبة للاووست وقبله دوتي؛ يتعلق الأمر بالنسبة إليهما بتلقف التقويم القمري الإسلامي لطقس أمازيغي قديم.
الذبيحة الإسلامية :
لقد كان الاحتفال البربري القديم يبدأ بالتضحية بالكبش ذي الطبيعة الإلهية bélier divin وليس هناك أي غرابة في أن تحل “ الذبيحة الإسلامية”محله بشكل طبيعي، ذلك أن هذا العيد الجديد ليس إلا تنكرا travestissement في العيد القديم الذي تنكر أولا في لباس “ خروف باسكال ” المسيحي قبل أن يتسلل تحت المعطف الإسلامي.
تخليد الأضحى :
يقول إميل لاووست : “ يمكن الآن أن نعود إلى بوجلود ، لقد أردنا أن نثبت أن تماس المسخرة التي يحضر فيها مع عيد الأضحى ليس مجرد نزوة ،كونها تأتي بعد التضحية بكبش، ولأن هذا الكبش كان إلهً، ثم كون الضحية أو “ تْفَسْكا ” المرتبطة بعيد الأضحى تخلد على مر الأزمنة ذكرى الإله الليبي القديم آمارون Amaron الذي تحول بعد مرحلة عدم استقرار إلى بعل-آمون ثم إلى زحل saturne الأفريقي تحت الهيمنة الرومانية، قبل أن يتحول إلى الخروف الباسكالي في مرحلة ازدهار المسيحية. بعد ذلك وتبعا لتكرار الرّدة تغير معنى هذه “الأسماء المباركة”، لكن إذا كانت الآلهة قد ماتت، والاعتقادات قد تلاشت، فإن الطقوس لم تمت. والغريب أن كل هذه الطقوس تفسر في نفس الاتجاه، ذلك أن الزوج قتل-بعث الذي تلقفه الإسلام، حسب هذا الاتجاه الفكري، هو في الأصل طقس ربيعي مقترن بجنس جماعي سيتم تخليد ذكراه في الزواج الجماعي التي تمارسه بعض المجموعات الأمازيغية بمناسبة عيد الأضحى.
رمزية جمع النساء لدم الخروف يوم النحر :
في تحليله لرمزية الدم المجموع من طرف النساء يوم النحر يقول حمودي: “ لما ينبجس الدم من الجرح الذي أحدثه سكين الرجال، تجمع النساء منه ملأ مغرفة، ثم يجفف ويحفظ في قطعة قماش، ومع المرّارة vésicule biliaire قبل أن يعلق على جدار أو في سقف المطبخ، فوق الموقد.
أخيرا ترش بركة الدم المسفوح على الأرض بالملح، لقد شربت الضحية “مادة البيت”: الشعير والملح والحناء، لكنها تقدم بالمقابل مادتين إشكاليتين، لكنهما واقيتين ونافعتين. يسم المضحون أنفسهم بالدم ويستعملونه مع المرارة كحماية وموصل للبركات، ويستعملون المادتين لأعراض علاجية، كما يحرقون جلطة الدم للوقاية ضد الآثار الضارة للاتصال مع الأرواح.. الدم يجلب الجن، لكن الملح يطردهم، وقد تمارس بعض الذبائح لاسترضائهم : لاسترضاء قوى الأرض في بدء الدورة الزراعية، كما أن الدم البشري هو المادة الرئيسة في السحر القاتل.
خطورة دم الأضحية :
هكذا يشير كل السياق الإثنوغرافي إلى دنس وخطورة الدم الذي ينبغي دائما وبأي ثمن التخلص منه، والحال أن كل شيء يتم وكأن من اللازم في بعض الحالات، خصوصا منها حالة الأضحية الإسلامية، وبصورة مناقضة ومعاكسة الاقتراب منه إلى أقصى حد مع تطهير الجزء الذي يمس الأرض. لكن هذه المفارقة ليست إلا في الظاهر، لأن دم الضحية تتحكم فيه الصلاة والعبارات المنطوق بها قبل النحر؛ فلا خطر إذن من جمعه، لكن لا يبقى الأمر كذلك عندما يمس الأرض : مقام كائنات أعماق الأرض المنفلتة من السيطرة التي تسرع إليه لإرواء ظمئها.