حرية التعبير ..بين السياسة والقانون

حرية التعبير ..بين السياسة والقانون

أحداث سوس11 يناير 2020آخر تحديث : منذ 5 سنوات

ذ. محمد الهيني محامي وقاض سابق

إن النقاش العمومي المحتدم اليوم حول حرية التعبير بين تيارين مختلفين، أحدهما يعتبرها حرية مطلقة لا تقبل التقييد ولا التجزيء، ويرى في المتابعات القضائية التي تحركها النيابة العامة في حق ناشري المحتوى الرقمي المسيء بأنها غير ذات أساس من القانون والواقع، وهو التيار الذي يمثله نشطاء حقوق الإنسان مثل أحمد رضى بنشمسي وخديجة الرياضي والمعطي منجب وغيرهم من أتباع جماعة العدل والإحسان.

أما أنصار التيار الثاني، فيتشبثون بالطرح القائل بأن حرية التعبير هي حق دستوري وقيمة كونية، لكن ممارستها والتمتع بها يخضعان معا لتقييدات واستثناءات تحددها القوانين الوضعية الوطنية، مستندين في ذلك على مقتضيات المادة التاسعة عشر من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ومعززين طرحهم بالنصوص الجنائية الوطنية التي تعاقب على جرائم القول والتعبير من تشهير وإهانة وقذف وإفشاء للسر المهني والتبليغ عن جرائم وهمية والإشادة بأفعال إرهابية…الخ.

وقبل الترجيح بين هذين التيارين والقول أيهما يجسد فلسفة المشرع المغربي والدولي، ينبغي التنويه أولا إلى أن خلفية هذا السجال العمومي هي سياسية رغم أن مخرجاته قانونية، فالأمر يعبر في نظري عن أزمة أكبر تتمثل في انتكاسة العمل السياسي ومحدودية المبادرة التشريعية للفاعل البرلماني في ظل الحكومتين المتعاقبتين اللتين ترأسهما حزب العدالة والتنمية، في فترة حاسمة ومفصلية كان فيها المغرب يشهد وصول وسائل التواصل الحديثة وتقنيات المعلومات إلى عموم المواطنين دون أن يوازي ذلك أو يمهد له تقعيد قانوني سليم، يحدد المعايير المؤطرة والضابطة لحرية التعبير مثلما وقع في التشريع الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر.

فانتشار وسائط التواصل الجماهيري وتنامي التدوين الافتراضي على منصات التواصل الاجتماعي استبقا في المغرب صدور المدونة الجديدة للصحافة والنشر، وسبقا أيضًا التعديلات والتحيينات المرتقبة على قانون الاتصال السمعي البصري، بسبب نكوص العمل التشريعي الحزبي، وهو ما جعل المدونين والمغردين واليوتوبرز المغاربة يعتقدون أو يتوهمون للوهلة الأولى بأن حرية التدوين الرقمي ببلادنا هي حرية مطلقة ولا تخضع لأي ضوابط قانونية، ولعل هذا الأمر هو الذي زاغ بالعديد منهم وانساق بهم نحو اختراق حميمية الأشخاص الذاتيين والمعنويين والإساءة لاعتبارهم الشخصي، علاوة على مختلف مظاهر المساس بسمعة وصورة بالمؤسسات الدستورية الوطنية.

وهذا التباين الزمني الحاصل بين التدوين الرقمي والتشريع المقنن له بالمغرب ، يذكرني بحالة “السمنة” التي ضربت شرائح واسعة من مواطني دول الخليج العربي، وتحديدًا دولة الكويت في وقت سابق من بداية الألفية الثالثة، إذ تحسنت الظروف المعيشية بفضل الطفرة النفطية السريعة والمفاجئة حتى قبل أن تنضج الثقافة الغذائية عند رعايا تلك البلدان، والنتيجة كانت هي تزايد معدلات السمنة بشكل مخيف في صفوف النساء والشباب، لأن الكل أقبل على تناول مختلف المأكولات بنهم كبير بدون ثقافة غذائية رشيدة ومتوازنة.

وللأسف الشديد هذا هو حال التدوين الرقمي بالمغرب. ففي الوقت الذي يجد فيه الصحفي نفسه مثقلا بعدة إملاءات مهنية ومقتضيات قانونية تؤطر عمله، نجد، على النقيض من ذلك، المدون أو المغرد أو اليوتوبرز لا يعترف بأية حدود أو كوابح قانونية، إذ يكفيه أن يقف أمام كاميرا هاتفه المحمول أو حاسوبه الشخصي ليشرع في السب والقذف والتشهير… وهي المسألة المجرمة قانونا في كافة الشرائع والمواثيق الدولية وبموجب كل النصوص الجنائية الوطنية.

وفي الختام، لابد من تطوير النقاش العمومي اليوم بالمغرب والارتقاء به من نقاش سطحي يزايد فقط على حرية التعبير، ويتراشق بالتهم المجانية مع أجهزة العدالة الجنائية، إلى نقاش تشريعي مندمج يقنن من جهة أولى حرية التعبير ويقطع الطريق على انزلاقات المحتوى الرقمي المسيء لحقوق الأفراد والجماعات، ويعزز في المقابل ضمانات حماية وصون حرية التعبير، وذلك بشكل متوافق ومتوازن لا يكون فيه مجال للشطط أو التجاوز، ويحول قدر الإمكان من كل مظاهر الإفراط والتفريط.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *