تابعوا معنا هذا التحقيق الذي يميط اللثام عن جزء مظلم من تاريخ المدينة..
تاريخ تجارة الجسد بأولاد تايمة
ارتبطت ظاهرة الدعارة بمدينة أولاد تايمة بالظروف الاقتصادية التي كانت تطبع المنطقة في بداية السبعينات، حيث أن اقتصاد المنطقة كان مبنيا على الفلاحة، وهو الأمر الذي جعل شهرتها تتجاوز الحدود لوجود ضيعات فلاحية كبرى وفلاحين كبار ومستثمرين في الميدان الفلاحي، هؤلاء الذين استطاعوا تأسيس معامل للتلفيف والتصدير ومحطات لتهيئ المنتوجات الفلاحية للبيع في سوق الخميس وفي الأسواق الأخرى، ومعلوم أن الاشتغال داخل محطات التلفيف هو عمل موكول للنساء، لعل ذلك ما حدا ببعض الفلاحين أصحاب معامل التصدير لجلب أفواج من النساء من مناطق متفرقة من المغرب للعمل في مدينة أولاد تايمة، في ظل تقاليد صارمة لا تسمح لنساء المنطقة بدخول سوق الشغل، حيث كان الفلاحون يأتون بالنساء من أماكن بعيدة كآسفي والصويرة وغيرها .. وهم نساء يعاني أغلبهن من ظروف اجتماعية قاهرة، وانحلالات أخلاقية فرضتها عليهم ظروف الفقر والحرمان من أدنى شروط العيش، وهكذا اشتهرت منطقة أولاد تايمة بأنها تحتوي على فرص الشغل في المجال الفلاحي، وانفتح الباب على أسراب من المهاجرين والمهاجرات اللواتي دفعتهن الحاجة إلى البحث عن عمل، حيث أصبحن يلجأن إلى بيع أجسادهن كلما توقفن عن العمل وانقطعت بهن السبل، وهكذا فإن أغلبهن عمدن إلى اكتراء منازل بدرب الحمام وقرب زاوية سيدي الطيب بأولاد تايمة وحي الشنينات لقربها من مقر عملهن حيث كان هناك معملين للتلفيف والتصدير أحدهما للبرلماني الحاج علي قيوح والآخر لفلاح يدعى الحاج ابويه، وكانت زاوية سيدي الطيب في ذلك الوقت مزارا يزوره الناس ويقام هناك ما يسمى (المعروف)، حيث استقرت أغلبية هؤلاء النساء في دور سكنية قريبة من الزاوية، وأخذن يتعاطين الفساد كلما دفعتهن الحاجة إلى ذلك، ليتحول الأمر بعد ذلك إلى إدمان على البغاء لما يدره هذا النشاط من أموال طائلة، حيث أصبحن يجلسن قرب أبواب منازلهن في غفلة من السلطات والسكان لاستدراج زبائنهن بشتى طرق الإغراء، ليصبح المكان بعد ذلك مقصد الكثير من المنحرفين والمتسكعين والباحثين عن الجنس الرخيص من أبناء المنطقة والوافدين عليها من المدن المجاورة، وفي المقابل تهافتت هؤلاء النساء على اكتراء المنازل المجاورة وشرائها بعد أن غادرها أصحابها خوفا من تدنيس أعراضهم بعد أن شاع خبر تلك الأماكن واشتهرت بالبغاء والانحلال، كل ذلك أفرز أزقة بكاملها تستقبل وفودا من الباحثين عن الجنس، وهي أزقة عرفت حركية واسعة في مجال الدعارة، حيث أصبحت أغلب ممتهنات الدعارة يكترين المنازل ويجلبن إليها الفتيات من أماكن بعيدة وبطرق احترافية، حيث أصبحت ما يسمى بـ “الباطرونة” أي الرئيسة، هي التي تشرف على عملية الكراء وعلى جلب النساء من أجل ممارسة الدعارة بالمقابل، حيث يتم اقتناص النساء والفتيات عبر البحث عنهن في المقاهي ومحطات الحافلات أو اكتراء وسيطات بمقابل مادي تزداد قيمته حسب الصغر والجمال، حيث يتم استدراج فتيات ونساء يعانين من الفقر أو لهن مشاكل عائلية دفعت بهن إلى الشارع، ومنهن من دفعتها المراهقة والرغبة في الدخول إلى عالم الجنس لتجد نفسها وسط أوكار الدعارة بدون وعي منها، كل ذلك مكّن مجموعة من الوسيطات والباطرونات من تكديس ثروات مالية مهمة على حساب أعراض فتيات بريئات قذفت بهن مرارة الفقر إلى عالم البغاء المنظم.
الدعارة والجريمة.. وجهان لعملة واحدة
سير العمل داخل هذه الأوكار كان يمر بشكل غريب، حيث كانت ما يسمى بـ “الباطرونة” تبسط سلطتها على ممتهنات الدعارة وترغمهن على الوقوف أمام الأبواب وعلى النوافذ لإبراز مفاتنهن واستعمال جميع وسائل الإغراء أمام الزبائن الذين يقصدون هذه الأوكار كل يوم، ويستعمل العنف في كثير من الأحيان كلما تمردت إحدى النساء على أوامر “الباطرونة”، هذه الأخيرة ترغم النساء التي تشرف عليهن على الوقوف شبه عاريات أمام أعين الوافدين طيلة اليوم وإرضاء الزبائن وتقديم خدمات جنسية بمقابل مادي يتراوح بين عشر دراهم وعشرين درهم، كما أن المكان المخصص للممارسات الجنسية هو عبارة عن غرفة خالية إلا من فراش رديء، وقد كان العمل يستمر إلى وقت متأخر من الليل تحت مراقبة صارمة من طرف الوسيطات اللواتي يجلسن على كراسي قرب منازلهن لمراقبة سير العمل من بعيد، ومنهن من يمارسن التجارة وبيع المأكولات والسجائر وغير ذلك للحشود البشرية التي لا ينقطع أثرها حتى الصباح، كما أن بعض الأزقة بحي النصر وحي الشنينات كانت فضاء مغريا سواء بالنسبة للمنحرفين الذين يستغلونها من أجل التعاطي للسكر والمخدرات بكل أشكالها.
والجدير بالذكر فإن بداية الثمانينات عرفت توافد مجموعة من المنحرفين الذين جاءوا من مدن متفرقة وخصوصا من قلعة السراغنة، هؤلاء الذين استغلوا الانفلاتات التي كانت تطبع المشهد الأمني بالمدينة آنذاك من أجل ممارسة الجريمة بشتى أنواعها وإقامة علاقات جنسية مع مجموعة من ممتهنات الدعارة، وقد عرفت هذه الفترة مجموعة من الجرائم الماسة بالأشخاص والممتلكات، من سرقة وتهديد بالسلاح الأبيض وقتل، حيث كان حي الزاوية وحي الشنينات مسرحا للعديد من جرائم القتل والضرب والجرح، دون أن تتمكن مصالح الدرك الملكي بالمنطقة من السيطرة على الوضع، حيث أن الساكنة المحلية قد سجلت اعتداءات يومية على مجموعة من المواطنين، مما خلق جوا من التوتر طبع قلوب الآباء بنوع من الخوف على فلذات أكبادهم، في الوقت الذي أضحى فيه حي النصر وحي الشنينات مستنقعا للجريمة، ومقابل ذلك فقد كانت هذه الأحياء تخفي بين جدرانها أمراضا معدية زرعت الخوف في نفوس الوافدين عليها، خصوصا بعد تسجيل أزيد من 40 إصابة بداء فقدان المناعة المكتسبة في صفوف المتعاطين للدعارة بالمنطقة، في حين أن هذا الرقم لم يكن يمثل العدد الحقيقي للنساء الحاملات لفيروس السيدا اللواتي يتعاطين الدعارة بالمدينة.
الدرك الملكي والدعارة المحروسة
كثير من رواد أوكار الدعارة بحي النصر وحي الشنينات كانوا يجمعون على أن هذه الأحياء ينعدم فيها الأمن، إذ ظلت عبارة عن فخ منصوب، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، هكذا كان يتصورها الجميع، في الوقت الذي سجل فيه البعض وجود علاقة مشبوهة تربط مسؤولين عن الدرك الملكي بأوكار الدعارة، تبين لهم ذلك من خلال الدوريات التي كانوا يقومون بها والتي لم تكن تسفر في غالب الأحيان عن اعتقالات في صفوف ممتهنات الدعارة، ومقابل ذلك لاحظ البعض الآخر تدخلات بعض المسؤولين عن مركز الدرك من أجل حماية الدعارة وحراستها، خصوصا عندما شاع خبر تورط أحد المسؤولين عن الدرك في علاقة مشبوهة مع إحدى ممتهنات الدعارة، في الوقت الذي سجل فيه عدد من السكان تردد أحد “الباطرونات” على مركز الدرك الملكي بالمدينة بشكل مستمر إلى درجة أنها وصفت ب”لاجودان”، مما أثار لديهم أكثر من علامة استفهام.
وقد كانت دوريات الدرك الملكي تقتصر على مطاردة الوافدين على الحي في وقت متأخر من الليل، حيث يتسم المشهد بالرعب ويطلق العنان للركض كلما مرت الدوريات عبر الأزقة، بينما تهم الباطرونات بإدخال فتياتهن إلى المنازل وإغلاق الأبواب، لكن سرعان ما يعود المشهد إلى حالته الطبيعية وكأن شيئا لم يحدث، وذلك بعد لحظة من المفاوضات بين الدركيين والباطرونات، مشهد كان يتكرر بشكل مستمر، ونادرا ما يتم محاصرة جميع الأزقة في أوقات معينة من طرف رجال الدرك والقوات المساعدة، حيث يتم اعتقال أعداد كبيرة من الوافدين على هذا الحي واحتجازهم بمركز الدرك الملكي بأولاد تايمة أو بمقر باشوية أولاد تايمة لمدة 24 ساعة حيث أن الكثيرين منهم كانوا يعاملون معاملة سيئة، ومنهم من يخرج بكفالة، مع العلم أن الاعتقال لم يكن يطال ممتهنات الدعارة رغم ضبطهن في حالة تلبس، في الوقت الذي أجمع فيه الكل على أن المقاربة الأمنية في ذلك الوقت لم تكن تفي بالغرض، ولم تكن كافية للقطع مع مثل هذه الممارسات التي أساءت إلى سمعة المدينة.
الدعارة .. المجتمع المدني.. السياسة!!
انتشار أوكار الدعارة بأولاد تايمة واكبه استنكار شديد من طرف جمعيات المجتمع المدني التي دقت ناقوس الخطر بخصوص تنامي هذه الظاهرة في الوقت الذي تناسلت فيه أوكار الدعارة لتشمل عددا من الأحياء كحي الشليوات وحي الشراردة … حيث قام اتحاد المدينة الجمعوي الذي تأسس في 15/12/2002 بإنجاز تقارير ميدانية وإرسال شكايات مستعجلة إلى الجهات المعنية من أجل التدخل للحد من هذه الظاهرة، وفي غمرة هذا الاستنكار الذي تعبأت له جمعيات المجتمع المدني، من أجل القضاء على أحياء الدعارة بالمدينة، تقدم السكان المجاورين لدور البغاء بكل من حي الزاوية وحي الشنينات وحي الشليوات بعدد من الشكايات موجهة إلى الجهات المعنية، كما أن أعضاء الجالية المغربية المقيمة بالخارج الذين يقطنون بحي النصر تقدموا بشكاية جماعية إلى السلطات المختصة من أجل وضع حد لظاهرة البغاء بأحيائهم، كما تقدمت عدد من جمعيات الأحياء والوداديات على رأسهم ودادية التقدم، بعدد من الشكايات منذ سنة 2000 ورفعها إلى الجهات المعنية من أجل التعريف بالمعاناة الحقيقية التي يعيشها السكان جراء تناسل أوكار الدعارة المنظمة في عدد من الأحياء بالمدينة، مما أثر بشكل سلبي على سمعة المنطقة وإشعاعها الفلاحي.
أما بالنسبة للبعض الآخر فقد كان الأمر تحكمه حسابات وتوظيف سياسي لملف الدعارة، تزامن ذلك مع استعدادات الأحزاب المحلية لدخول انتخابات 2003 وقد كانت تحركات أعضاء حزب العدالة والتنمية من خلال اتحاد المدينة، خطوة استحسنها البعض باعتبارها فرصة للقضاء بشكل نهائي على دور البغاء والظواهر المخلة بالحياء، كما رأى البعض الآخر أن هناك توظيف سياسي لمشكل الدعارة بالمدينة، وهكذا التف حزب العدالة والتنمية في بداية ظهوره في الساحة المحلية على ملف الدعارة على اعتبار أنه ورقة رابحة وجواز لدخول الاستحقاقات الانتخابية بكل قوة، في ذلك الوقت اكتست الدعاية الانتخابية طابعا خاصا، حيث انفتح الأمر على الاتهامات، وتحميل المسؤولية للمجلس الجماعي في انتشار أوكار الدعارة بالمدينة، ولعل المواجهات التي طبعت الانتخابات المحلية في ذلك الوقت، كانت خير دليل على حرارة الصراع الدائر من أجل زعزعة الحزب الوطني الديمقراطي الذي هيمن آنذاك على رآسة المجلس الجماعي بالمدينة منذ وقت طويل، في الوقت الذي أصبح فيه موضوع الدعارة يتردد على أكثر من برنامج انتخابي، وأصبح ملف الدعارة المنظمة بمدينة أولاد تايمة يكتسي طابعا سياسيا، خصوصا حين شاع خبر اقتراب إحداث مفوضية للشرطة بالمدينة.
الأمن الوطني ونهاية أوكار الدعارة
لم يكن تأسيس مفوضية الشرطة بأولاد تايمة بتاريخ 28/01/2003 فأل خير بالنسبة لممتهنات الدعارة بأولاد تايمة، إذ كان من بين الملفات التي تنتظر هذه المؤسسة، ملف الدعارة المنظمة والفساد الأخلاقي والمخدرات، وقد كان دخول الأمن إلى مدينة أولاد تايمة، يطبعه الترقب من طرف الساكنة التي عقدت آمالها على مصالح الأمن من أجل فك رموز الدعارة بالمنطقة، وهو ترقب طبع كذلك محترفات الدعارة، وأصبح الحذر سيد الميدان.
وهكذا قامت عناصر الأمن بعد تأسيس مفوضية الشرطة بأولاد تايمة، بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف ممتهنات الدعارة وضبطهن في حالة تلبس وتقديمهن للعدالة لتقول فيهم كلمتها، كما شمل الاعتقال الأشخاص المتهمين بإعداد أوكار البغاء والتحريض على ممارسة الفساد، الشيء الذي أرغم عددا من الوسيطات على إخلاء وبيع دورهم السكنية بكل من حي النصر وحي الشنينات والمعدة للدعارة، هروبا من المتابعات القضائية التي أجهضت كل مخططاتهم وكسرت نفوذهم، كل ذلك ساهم بشكل أو بآخر في تقليص ظاهرة الدعارة المنظمة بأولاد تايمة، ولعل الإحصائيات التي سجلتها مصالح الأمن بالمدينة تؤكد على أن أعداد المعتقلين والمعتقلات في قضايا الدعارة أصبحت تأخذ منحى تنازليا سنة بعد أخرى مما يعني أن التحركات الأمنية قلصت نوعا ما من هذه الظاهرة، غير أن هذه التحركات الأمنية المكثفة للقضاء على الدعارة بالمنطقة لا تعني أن الظاهرة قد تم تصفيتها بشكل نهائي، كل ما في الأمر أن الدعارة بأولاد تايمة تحولت من شكلها المعزول وسط أحياء معدة للبغاء، لتنتقل إلى أماكن أخرى وبطرق جديدة.
أعد هذا التحقيق: إدريس لكبيش