محمد أمنون
أمام البوليميك السياسي الذي صاحب الاعلان عن برنامج مهرجان الجمل في دورته التاسعة بمدينة كلميم باب الصحراء المغربية، بوليميك لا ينقص من شأن المهرجان بقدر ما يرفع من قيمته محلياً ووطنياً ويعد حافزاً للمنظمين للتطوير والإجهاد … ارتأيت كباحث في السياسات الثقافية والتنموية، أن ألقي بدلوي في هذا النقاش بوضع الإطار العام لمثل هذه اللقاءات الثقافية –أي العلاقة الجدلية بين الثقافة التنمية– هادفاً أن يكون لهذا المقال المتواضع أثر للدفع بمثل هذه النقاشات نحو بلورة صناعة ثقافية تهدف الى الرفع من وثيرة التنمية عبر الثقافة في هذا المجال “كلميم وادنون” الذي تؤكد كل القراءات التاريخية والحديثة، وكل الأحداث السياسية الأخيرة “بلوكاج الجهة” أن الثقافة هي بوابة المجال الوحيدة للارتقاء بجودة حياة ساكنته.
لقد مضى العهد الذي كانت تقاس فيه التنمية عبر مؤشرات رقمية بحتة فقط، وأضحى مفهوم التنمية اليوم أكثر عمقا وشمولية، تتداخل فيه عوامل كثيرة ومتعددة ومختلفة، ويقاس بمدى قدرة أية استراتيجية على النهوض والتقدم بكافة المناحي الاجتماعية، فلقد أضحى محور العملية التنموية وهدفها المركزي في مفهومها المعاصر، الإنسان “التنمية تتحقق بواسطة الناس ومن أجل الناس”، وتبعا لذلك ظهرت مفاهيم جديدة مثل مفهوم “التنمية المستدامة” ومفهوم “التنمية المندمجة” والتنمية البشرية” و”التنمية المجالية” التي تربط العملية التنموية بالمجال والمحيط وكذا مفهوم “التنمية الثقافية” التي تؤكد على الدور المحوري للثقافة في تحقيق تنمية متكاملة وشاملة للإنسان وللمجموعات البشرية.
وفي الوقت الذي عرف فيه مفهوم التنمية قفزة نوعية جديدة، عرف مفهوم الثقافة نفسه تطورا هائلا، ولم يعد يحيل إلى المعارف التي يتم تلقينها في المدارس العصرية. بل أصبحت مرادفا للرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات، ونظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالا، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، وهي الوجوه المميزة للمقومات التي تميز بها عن غيرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب. وفي جملة واحدة فإن الثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والعادات.
من هنا أكدت مؤتمرات “اليونسكو” العديدة في العقدين الماضيين على أهمية الاعتراف بالبعد الثقافي ضمن منوال التنمية والتأكيد على الهويات الثقافية، وفتح آفاق المشاركة في الحياة الثقافية مع دعم التعاون الثقافي الدولي. ولذلك، فإنه من الضروري اعتماد القيم الكونية، وفي آن واحد التعددية الثقافية، حيث تصبح مهمة السياسات الثقافية، المحافظة على تعددية المبادرات الثقافية وحمايتها قصد دعم التفاهم والاعتبار والاحترام بين الأفراد والأوطان في مجابهة مخاطر الصراعات والتغلب عليها، هذا ما جعل الثقافة بالمنظور الكوني الجديد في قلب عملية الوجود البشري، وعملية التنمية الإنسانية من منطلق أن الثقافة –كما سبق الذكر– هي مجمل الخطوط المميزة روحانيا أو ماديا وفكريا وحسيا، وهي التي تميز مجتمعا ما أو مجموعة اجتماعية وتعني الفنون والآداب وطرق الحياة ومنظومة القيم والتقاليد والمعتقدات.
وعليه فإن المهرجانات كيفما كان نوعها وحجمها مثل مهرجان أسبوع الجمل بمدينة كلميم ليست مجرد حدث عابر أو نوع من الترف الثقافي أو نوع من هدر المال العام كما يلوك البعض دون براهين وأدلة… وكذلك ليست مجرد مناسبة احتفالية خالية من أية قيمة، بل ذات أثر نفسي وثقافي واقتصادي والتاريخ وحده الكفيل بتسجيل قيمة بعض الأعمال أمام نكران بعض الناس لذلك بدواعي سياسوية ضيقة أو تصفية الحسابات الشخصية في بعض الأحيان، كما هو الحاصل في مهرجان كلميم “أسبوع الجمل”، وكما حصل قبله في مهرجان “أمسادر” بجماعة إفران الأطلس الصغير بنفس الإقليم الذي ثم إقباره في المهد …
المهرجانات يا أخي شاهد على الاختيار الصحيح للمسار السليم في نهضة الدول، الدول التي تقدر شعوبها وثقافة شعوبها وعادتها … الدول التي تعي دور العامل الثقافي في بناء العقول، فتحدي التنمية المحلية المستدامة يتطلب مثل هذه الفعاليات الثقافية الكبيرة، وربما ليست مبررة تلك المخاوف –المغرضة في كثير من الأحيان– من اعتبارها مناسبة ووسيلة لهدر المال العام التي يحملها تحذير مغرض ومشفق –متناسين ومتجاهلين إن للمغاربة بصفة عامة وساكنة واد نون بصفة خاصة تقاليد عريقة في العلاقة مع الفضاء العام، والمواسم الثقافية والفنية التراثية التي كانت تقدر بالمئات، حيث يقام في كل دوار وقبيلة نشاط ثقافي موسمي تماشيا مع التنوع الثقافي والامتداد الجغرافي للمجال- أمام الواقع الحقيقي حيث تحولت هذه المهرجانات إلى ما يشبه مناسبات اجتماعية تزدحم بوجوه من الفعاليات الجمعوية المحلية (عشرات التعاونيات المشاركة في المعرض) ورجال السياسة والمثقفين والباحثين والسياح من مختلف أنحاء الجهة والوطن والمعمورة، فمجرد وجود كل هؤلاء في مكان واحد هو حدث إنساني اجتماعي عظيم وثقافي مهم واقتصادي كبير لا يقدر بثمن أو قيمة مادية، يسهم في عملية تبادل الخبرات والمعارف بينهم، وهي أداة دعم قوية لتشجيع وتفعيل السياحة الداخلية، كما أن الحدث يتيح كذلك لهؤلاء الضيوف التعرف إلى ثقافة المجال، وهذا بالطبع لا ينفي أهمية الفعاليات التي يتبناها المهرجان، في المجالات المختلفة، خاصة في الفعاليات المصاحبة للمهرجان.
والدولة أو المؤسسات الخاصة والعامة إذ تدعم هذه المهرجانات، فهي تعبر عن سياستها في مجال الثقافة والإبداع، كمهمة لازمة لعملية التنمية والتطور الضرورية هي الأخرى في عمليتي بناء الدولة وبناء الإنسان في ما يعرف بالتنمية البشرية الفاعلة والمستدامة، ولعل حجم التحديات الكبيرة في ظل تلاشي الاهتمام بالثقافات المحلية، كعملية ملازمة لظاهرة العولمة، يحرض على مثل هذه المهرجانات الكبيرة في مجالات الثقافة المختلفة والتراث المتنوع، وغيرها من الضروب الثقافية والابداعية، فهي تعكس حجم الاهتمام بالتراث والخصوصيات الثقافية المحلية.
والملاحظ من خلال برنامج أسبوع الجمل في دورته التاسعة أمامنا، أن الجمعية المنظمة كانت حريصة على تنويع الفقرات (التبوريدة، الألعاب الشعبية، معرض الاقتصاد الاجتماعي، ندوات علمية، خيمة الشعر…)، وهو ما يؤكد امتلكها –الجمعية المنظمة- لرؤية سياحة مواطنة مستقبلية فاعلة ذات المنافع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مستمدة من القيم المحلية والأصالة وتراث شعبي مضياف –فالمهرجان ساهم على طول الدورات السابقة في التعريف بالموروث الشعبي للمجال، وتشجع تسويق المنتجات اليدوية والصناعات التقليدية به، بالإضافة إلى أن المهرجان أتاح الفرصة لإيجاد فرص عمل للشباب-، وهذا أمر يسجل لها وهو ضمن سياق تنموي نهضوي متكامل، يعلي من الثقافة والمعرفة و التراث المحلي…
فالجهوية المتقدمة التي اختار المغرب نهج مسارها في بدايتها وتحتاج الارتكاز على المؤهلات الثقافية والاقتصادية والبشرية والطبيعية المحلية، من أجل المساهمة في عمل تراكمي نهضوي… وذلك يتطلب جهداً كبيراً في جبهة التنوير، والمهرجانات الثقافية هي ترجمة لهذا الاهتمام، وكذلك كثير من الدول المتقدمة والسائرة في طريق النمو تهتم بالمهرجانات الثقافية، ولئن كان البعض يرى ضرورة مراجعة المهرجانات إشفاقاً من أن تتحول إلى مناسبات لهذر المال العام، فإن المطلوب عكس من ذلك، مزيد من المهرجانات والاهتمام بها، فالمهرجان يمتلك أدوات تصحيح مساره، عبر عملية التقييم لتجنب ما يمكن أن يحدث من قصور، ففعاليات المهرجان، تبقى مؤثرة إذا ما أخضعت لعملية تقييم مستمر، فالثغرات تسد عبر التواصل وهذه عملية مهمة في حياة المهرجانات التي تساهم بدون شك في تثمين التنوع الثقافي وتعزيز التعدد اللغوي وإبراز مقومات الهوية المغربية والمساهمة في التنشيط الثقافي على الصعيد الوطني والجهوي..
والتعاطي بهذه الكيفية بشأن المهرجانات يسد الجدل الذي قد ينشأ حول سوء فهم بعض المتربصين ربما يصاحب عملها، فهذا هو العمل الإيجابي المثمر، الذي ينتجه التفاعل الإيجابي والنقدي، الناتج عن العملية التقييمية، فالمهم والأساسي في المسألة هو قيام المهرجان أو المنتدى أو اللقاء الثقافي، بل والإكثار من مثل هذه الفعاليات، فالتنمية الإنسانية تتطلب ذلك الاهتمام الذي توليه الدولة بالثقافة، فلا تنمية بلا تحرير للعقول، والاهتمام بالمعرفة هو بمثابة العتبات الأولى في تلك التنمية. فمتى تكون لدينا “ثقافة صناعة المهرجانات” لما فيها من عوائد ثقافية ومالية وحراك اجتماعي ؟؟.
إن قدرة إدارة مهرجان أسبوع الجمل مستقبلا على الانكباب على الإجابة عن هذا السؤال قد يفتح أمامها مداخل نوعية في التطوير والتحول المنشود، ليس فقط في فعاليات المهرجان ومحتوياته والتي هي مجال واسع للتطوير والابتكارية؛ بل في قدرة المهرجان على إحداث تحول في سلوك المواطن المحلي وفي تفسيره للمفاهيم والمصطلحات التي يتلقاها حول محتويات المهرجان، وهي نقاشات وحوارات ستؤكد للجهات المنظمة حقيقة مهمة وهي أن الموضوع بحاجة إلى مزيد من الوضوح والشفافية حول المنجز المحلي الحقيقي لمهرجان أسبوع الجمل، ومدى ما يلمسه المواطن والزائر من نجاحات المهرجان على مسيرة التنمية المحلية، وما إذا كانت هناك من توجهات أخرى بالإضافة البعد الاستثماري والبيئة الاقتصادية والترويج لاتفاقيات لوجستية متكاملة تتزامن مع فعاليات المهرجان وتضمّها بيئته.
إن ما سبقت الإشارة إليه يضعنا أمام قراءة للمنجز المحلي لهذا المهرجانات وغيره من المهرجانات بالمجال “جهة كلميم واد نون” وعلاقته بغايات ومخططات التنمية الجهوية والاقليمية والمحلية، واستيعابها لمفهوم التحول وقدرتها على خلق مناخات أكبر للشراكة وتأصيل رؤية التطوير المعززة بروح الشباب والموجهة بمعايير الخُلُق والذوق، والقادرة على تغيير بعض الأفكار السائدة حول هذه المهرجانات وتأثيرها على منظومة القيم والأخلاق، وبالتالي أن تبرز تحولات العمل فيها مناخات جديدة مبتكرة تتجاوز حدود المعتاد في البرامج أو الأنشطة والفعاليات، لتبرز فيها جوانب الابتكار المتعددة الذي يتجاوز الكلمة إلى الآلية والطريقة والمنهجية.
وأن يبرز التواجد الشبابي فيها لتعميق قيمة التراث المادي وغير المادي كقيمة حضارية للمجال يتجاوز حدود التطبيل والتصفيق والدندنة والرقص والإعجاب إلى تبني روح التراث في النفس والقناعة به كمدخل للتغيير، وانتهاجه في إطار سلوك محلي يقوم على إتقانه المخلصون والمبدعون من أبناء الجهة، فهو بذلك فرصة لتقييم التراث ومراجعته وإعادة تهذيبه وصقله في إطار تنوع الثقافات واتساع أفق المنجز الثقافي الوطني والعالمي …
إن القدرة على تغيير نمط الفكرة وأسلوب التعبير من كون المهرجان مجرد ترويح للنفس وتنشيط وترويج سياحي إلى كونه بناء ثقافة انسانية قادرة على إيضاح الصورة للساكنة المحلية في الدرجة الاولى بما يتميز به أدبهم وثقافتهم وجوانب التميز لديهم من جهة، ومفهوم قيم الضيافة في تعاملهم مع الاخر … وكلها قنوات للتعرف على ثقافات الآخر والتواصل معه في إنسانية الثقافة وعالمية الفكر؛ وهي امور سوف تثمر عن تحولات نوعية في قدرة المهرجان على رصدها بشكل يخدم التنمية ويوفر لها مداخل أكبر للإنتاجية لتبقى في ذاكرة الأجيال وتاريخ المجال