بأسلوب أنيق، يروي الصحافي المغربي، نزار الفراوي، في هذا الربورتاج، الذي خص به ” تيلكيل عربي”، تفاصيل رحلة شاركت فيها ثريا جبران وعدد من نجوم الثقافة والمسرح المغربي، وكادت تتحول إلى كارثة. قراءة ممتعة…
صالة الإركاب تواصل الاحتشاد. وجوه المسرح المغربي تتوافد لتصنع بانوراما جميلة من مختلف الأجيال. شباب الفرق المسرحية يتوزعون على حلقات دردشة ضاحكة.النقاشات التي تسبق مهرجان المسرح العربي بالأردن تبدأ باكرا بين نقاد وجامعيين، مؤلفين ومخرجين، ثم تظهر ثريا جبران، سيدة الركح المغربي. أعيتها السنون قليلا لكنها تواصل توزيع الحب بابتسامة حنونة وعناقات حانية مع من تعرف ومن يعرفها من أعضاء الوفد المدعو للتظاهرة.
تعلو بالمكبر دعوة المسافرين على الرحلة الرابطة بين الدار البيضاء وعمان لصعود الطائرة التي تقلع في تمام الحادية عشرة من ليل تاسع يناير. على مقعدي المحاذي للنافذة، أتطلع في خرائط الضوء التي ترسم أشكال فاتنة لتمدد العمران. حلت وجبة العشاء، لذيذة على بطن خاوية. دجاج وأرز منسم، حلوى، يوغورت، جبن، وقطعة خبز باردة. مرت عربة السوق الحرة التي لم تجد زبائن داهمهم النوم. كان حظنا في شاشات الطائرة رسوم متحركة لتوم وجيري. تبدو الرحلة هادئة، والتخمة الليلية بدأت تطيح بالمسافرين.
مضت ساعتان ونيف. خط السير يوثق دخولا لأجواء التونسية. نكاد نطوي نصف الرحلة إذن. يتجشأ الميكروفون فنصغي لخطاب القائد. عطب تقني…اختنقت الأنفاس قبل أن يواصل: تمت السيطرة عليه، لكن..تنشد الأعصاب فيزيد: سنضطر للعودة إلى الدار البيضاء لأن إصلاح العطب ينبغي أن يتم في حظيرة الشركة. الخوف يرتب التسليم لصاحب القرار، ومن يملك المعلومة. قراءات قرآنية هامسة تنبعث من هنا وهناك. سور تنسخ أخرى، بمختلف اللهجات. وأعين الرعب تلمع في الظلام.
حينها يستدعي الرأس كل الهواجس المغتربة، يفتح الملعب أمام سباق الاحتمالات الكامنة. الوضع تحت السيطرة، قال الربان. فهل هو كذلك بالفعل؟. أليست السيطرة على الميكانيكا في بطن السماء محض ادعاء أو خطاب تهدئة تدرب عليه الربابنة في مدارس الطيران. “أيها المسافرون الكرام الطاقم سيظل رهن إشارتكم”. أحدهم كان مميزا بحيويته وتفاعله الودي مع استفسارات الفضول الاضطراري. “خيرا إن شاء الله”، رددها بتحامل ومكابرة. أما من يسر له يقينه السؤال عما بعد الوصول فغاب الجواب تماما أو كاد: “خيرا يكن إن شاء الله”.
سريعا تأجلت كل الأسئلة أو بددها توتر اللحظة. ترتخي الساعة التي تتحين فرصة قيلولة في ليل تستبيحه أنياب القلق والفزع. لماذا أوقفوا توم وجيري؟ فقد تنفع تسلية بنكهة الحنين في تزجية الوقت الثقيل والتخفيف من وطأة المجهول. في لحظات مماثلة تتوثب الأحاسيس وتشحذ اليقظة تجاه أبسط الإيماءات. تتقاطع النظرات القلقة. تتقدم رحلة النكوص، فتستقر الأعين على خريطة تقدم السير التي يتعاقب بثها مع قياس السرعة ودرجة الحرارة في الخارج والعلو عن سطح الأرض والزمن المتبقي…حملتني العبارة على استدعاء فيلم إليا سليمان: “الزمن الباقي”. تحدد الشاشة موعدا دقيقا للوصول، لكن اللهفة تنصب أحابيلها فنتورط في حسابات ساذجة. ساعة ونصف ونحط في كازا. والحال أن الطائرة تسير بسرعة 8269 كلم، آه، يتعين احتساب تباطؤ التحليق عند الاقتراب من المطار. ناقص 54 درجة في الخارج. كم يستغرق مسلسل تجمد الإنسان؟ هل طريق الساحل يوفر فرصا أفضل في حال الكارثة؟ كدت أضحك والسؤال يخامرني بينما أستعيد فيلما عن بطولة واقعية لعملية نزول اضطراري في نهر بأمريكا، مكنت من إنقاذ الركاب.
بدا لي صوت خروج العجلات مريبا. هل يكون العطب الذي تحدث عنه متصلا بها. كانت تلك آخر الأسئلة الرهابية المتعلقة بالسماء التي كانت رحيمة قبل أن يتلقفنا جحيم الأرض. بيني وبين الباحث المسرحي فهد الكغاط، أفاق الشاب النائم ليواجه صدمة الإعلان الوداعي الذي يهنئنا بالسلامة ويتمنى أن نكون قد “استمتعنا” بالرحلة التي انطلقت من البيضاء وحطت فيها. ماذا يقولون؟ أجبته: “حسنا فعلت، نمت ما يكفي لتجنب شريط الهلع”. ابتسم وسلم للقدر.
بدأ التشنج قبل أن ننزل. ظلت الأبواب مغلقة وتكدس الناس في الممر زمنا طويلا حتى علا صراخ البعض ضيقا. بعد أن ضمنا السلامة – مؤقتا- خف ثقل الألسنة التي صارت تناقش قرار العودة وتمحص حيثياته. لماذا العودة الى البيضاء ما دمنا قطعنا نصف المساقة تقريبا؟ لماذا العودة مادام العطب متحكما فيه؟ لماذا لم يتم التوقف في مطار قريب لفحص الطائرة أو تغييرها واستئناف المسير؟ لكن أحدهم مضى أبعد ليخمن صلة بين قرار الربان والقصف في ليبيا… له ذلك.
عند النزول، لا أثر لأي حركة طارئة لدى الناقل الوطني. موظفتا استقبال لا فكرة لديهما عما وقع. وصلتم الى تونس فعلا وعدتم؟ تستغربان. نسأل ما العمل الآن؟ لا شيء، انتظروا. أين المسؤولين؟ لا أحد هنا، فور توصلنا بالجديد سنعلمكم.
لا خطط استقبال للطوارئ، لا تواصل للطوارئ. لا ترتيبات للتكفل بمرضى، عجزة أو صغار، أو “أصحاء خائفين” حتى. طيب، قنينات ماء لسد العطش؟ لا شيء. المطار يغط في سباته. يفور المكان بغضبة الإهانة. شباب من الواعدين الذين يصنعون ربيع المسرح المغربي يخرقون الصمت بشعارات الاحتجاج، بينما وجدت لنفسي مكانا في صف الكهول والشيوخ، مكتفيا بالنظر والاشمئزاز من الحال. لعلي كبرت أو جبنت أو يئست. على الطابق العلوي، اصطفت عاملات النظافة اللواتي يباشرن دورية العمل باكرا، يتطلعن إلى “مظاهرة غير مرخص لها”. يقطع الممثل خفيف الدم عبد الله شيشة الشعارات الناقمة بترديد المقطع الشعبي الشهير “مالي أنا الطيارة دارتها بيا”، فيضحك الغاضبون، ويواصلون.
يقرر المحتجون طرق المعبر الأمني. حينها لا نجد بدا من الانضمام إليهم، بينما كان الكاتب محمد بهجاجي يتحامل على المشي بعكاز طارئ. يتحدث المخرج أمين ناسور مع شرطي الحاجز برزانة أكبر، وزميل له في حالة هياج. الحل ليس هنا.
يرد الخبر بأن مسؤولا قد حضر. يعود الحشد إلى البهو. يشبك الرجل المهم يديه خلف ظهره. يقف مديد الهامة بقسمات متجهمة. لعله كان يلعن صباح الغوغاء التي أزعجت ليله. عف عن الكلام، وقدم أمامه موظفة تحاول أن تشرح، فتجد نفسها عاجزة عن الإقناع. تتجدد عبارات الغضب والاسئلة المعلقة في الهواء. فيمتعض الرجل المهم، منسحبا بتأفف واحتقار. يسمع من الجموع ما لا يسره. سيدة أردنية تلف وجهها بضماد، خارجة للتو من عملية جراحية. لم تبرح مقعدها. كانت ترفع عينيها ببطء إلى المشهد، متعبة وحزينة وعاجزة. جازفت بالسؤال: “ما العمل”؟ فخرجت الكلمات مترنحة لتضيع هباء في الصخب.
تعود الموظفة لطرح التسوية كالتالي: سنصحب مسافري الترانزيت أولا إلى الفندق. بعدها يأتي الدور على الباقي. السؤال متى موعد الطائرة؟ في الصباح يصلكم النبأ. حينها كنت قد قررت إنهاء الرحلة بعد أن صمدت قليلا وأنا أستحضر الغضب المؤكد للأخ حسن النفالي، الذي كان كريما في حرصه على حضوري المهرجان، متعهدا عن كثب لترتيبات رحلة تحسبتها بشغف. لا طاقة لمزيد من الانتظار. إعياء شديد، طنين في الأذن وصداع لا يهمد. طلبت سحب حقيبتي، وكذلك فعلت الفنانة حفيظة خيي. تردد بهجاجي ثم فضل البقاء لالتزامه بعرض في ندوة.
متاهة استرجاع الحقيبة سردية أخرى. ثريا جبران، المدعوة كضيفة شرف، سبقتنا إلى مقهى قرب بوابة المطار. كانت تعاني نزولا في السكر، وكادت تنسى حقيبة يدها. أسرعنا، نحن الثلاثة، للحاق بقطار السادسة. في المقصورة، صادفنا شابين ماليزيين يقصدان فاس. أحدهما، فريد الدين، سألني من أين أتينا. أجبته من الدار البيضاء.. لم يفهم، لكنه ضحك. تحدثنا عن مهاتير محمد وعودته إلى الواجهة. سألني عن ميقات صلاة الفجر. سحب صندلا، توضأ وقام لأداء الرغيبة، بينما كان صرير الكوابح يحتد عند محطة الرباط.
نزار الفراوي
بتصرف