في سكون الليل المُفْعَمِ بنشوة الروح، يكتشف الإنسان ما لا يملك إلى اكتشافه في عِزِّ الظهيرة سبيلا. وكذلك هو إدريس.. لا يمكنك أن تسبر أغوار مهجته، إلا حين تكون الشمس قد لملمت أسمالها، وأعلنت أن النهار قد بلغ المشيب. ففي سكون الليل تكتشف أن الرجل من نخبة الذين يقرضون الله قرضا حسنًا. لم يكل يوما في الترافع بالحَرْفِ عن المستضعفين، والذود عن حِيَاضِ المال العام المستباحة من لصوص الوطن.
ينتمي إدريس إلى طائفةٍ من الناس أقسمت جهد أيمانها أن تجعل من حروفها صدًى لأَنَّات كل مُسْتضعفٍ مَهين… تلك الطائفة التي امتهنت الاندلاقَ خلف الحبر غير المهادن، لتجعل من الكتابة فعلا للجهر باللَّاءَاتِ، حين يعتنق الجميع عقيدة صنم اسمه الــــ”نَعَمْ”.
يحكي الذي جَايَلُوهُ منذ عُمر آفِلٍ، أن صُرَاخه كان يجلجل عبر الأثير، في زمن كانت فيه أجراس الخوف مستبدة بخرائط الكلام. جسارته الموغلة في الجَرَاءَة متأصلة فيه مُذْ كانت الكلمة الحرة حلمًا لغرز الحرف أوتادا في الأرض. لا يغوص في غياهب الأبجدية البِكر، إلا ليكتب حروف النار بالمسامير.
هذا الـــ”إدريس” من الأدارسة، كان وما يزال أَمْهَرَ الطُّهاةِ في مطبخ الرَّب. يقطف كل صباح سحابتين عَاجِيَّتَيْنَ، يعجنهما وقت الضُّحى، ويطهوهما خبزا تحت أشعة شمس الهاجرة، ليطوف بهما ليلًا، على بُؤَساء شَدُّوا أحشاءهم من سَغَبٍ. يحمل السُّحُبَ بكلتا يديه، وأحيانا على كتفيه، كلما امْتَشَقَت الشمس سِياطاً من نار ونحاس، ليُظَلِّلَ بها رؤوس أَقْنَانٍ مستعبدين في إِقْطاعيات نُبلاءٍ لا نُبْلَ فيهم.
ألم فادح يقطر من قلبه حين يتحدث عن حال صاحبة الجلالة، تلك المهنة التي لم يفضل لها من الجلالة غير الاسم. فحتى ذلك الإسم المقدس فيما مضى، صار اليوم عاريا من قداسته، فأصبحت الصحافة – بمشيئة إبدال لغوي مبتذل – محض سخافة. حدث ذلك كله حين صيَّروا المُتَصَحِّفَ صحفيا، يقول إدريس، وجعلوا من النَّطِيحَةِ سَبُعًا. يؤلمه أن يتحدث عن مهنة سطا عليها حَفَدَةُ مسيلمةَ الجُدُد.. محترفو التطبيل، وممتهنو التبرير. تلك الجوقة التي سَخَّرَتْ أياديها للتصفيق، وألسنتها للعق الأحذية، وأناملها لتجميل الوجوه القبيحة. جوقة لا تعرف في الصحافة غير أظرفةٍ تؤخذ مقابل حِبْرٍ رخيص. ذلك الحبر الذي لا مهمة له سوى أن يفعل فِعلَ الخُضَابِ، على أيادي عجائز شمطاوات مراهقات.
نعم، هو “إدريس مُبارِك”، سليل صحراء المرابطين، وقبيلة “دوبلال” التي تستوطن واحات النخيل بإقليم “طاطا”. زغردت الإلهة “تَانِيتْ” في أذنه، ذات مخاض جميل، بجبال ريفنا الشامخ، قبل أن تحط به الحياة رحالها في مدينة “إفني”، عاصمة آيت باعمران. وهناك امتزجت في حمضه النووي صبغيات الريف، والصحراء، وآيت باعمران.
عبدالله الفرياضي