عندما تكون المناسبة مناسبة الكلام عن فنانات وفنانين لهم بصمات خاصة في الساحة الفنية بالأطلس المتوسط، ولم يتعلموا أصول الفن في المدارس والمعاهد المتخصصة إلا أنهم قدموا الكثير للأغنية الأمازيغية رغم عصاميتهم وعشقهم للفن، ولأني أعرف أن أعمال الفنانة الكبيرة خديجة ملاك أكبر من أن يحدها النظر أو الوصف، فتذكرت حينها مقولة إيمانويل كانط في وصفه للأعمال الجميلة المتصفة بالضخامة والكبر، إذ قال أن روعة هذه الأعمال تشل اللسان وتجعل الإنسان لا يملك إلا أن يقف أمامها مشدوها مأخوذا فتيقنت من صدق هذه المقولة لأنني جربت وقعها وأحسست فعليا بالشعور الرائع الذي تحدثه في نفسي.
خديجة ملاك رأت النور بتاريخ 06 /01 / 1975 بقرية زاوية أيت اسحاق، اسمها الحقيقي خديجة بويزلوفة، وحديثي عن هذه الفنانة ليس حديث ناقد، ولكن حديث إنسان أحبها كفنانة إنسانة التي دشنت خطوتها الأولى مع بعض المجموعات العصرية بخنيفرة مثل: زوهري عبد الرحيم، وباعلي حسن، مصطفى الإدريسي، وبعض هاته المجموعات كانت قد بدأت الأغاني الشهيرة في الزمن المغربي الماضي: «الجولة بغات المال»، «دور بها الشيباني»، «قفطانك محلول»، وهنا يمكن أن أفتح قوسين للإشارة إلى أن موجة الغناء الهابط قد سادت بعض الوقت كما في القاهرة في العشرينيات على غرار : «بعد العشاء يحلا الهزار والفرفشة» التي غنتها سلطانة الطرب منيرة المهدية وكذلك الطشت «قال لي يا حلوة قومي استحمي» لدرجة أن هذه الموجة كادت تجرف بتيارها السيدة أم كلثوم في بداية مشوارها، حيث سجلت على الاسطوانة سنة 1926 أغنية مطلعها «الخلاعة والدلاعة مذهبي».
ويرجع الفضل للفنان محمد رويشة في صقل موهبة خديجة ملاك وتعلم أبجدية الغناء واللحن والوصول إلى استوديوهات التسجيل، دون إهمال أسماء أخرى قادوا خديجة إلى ما هي عليه، مثل الستاتي عبد العزيز، مصطفى بوركون، ولد الحوات سعيد، كمال العبدي، وغيرهم، فانطلاقتها الفنية كانت صعبة من حيث أن قاعدة المجال تلزم خديجة ملاك بالخضوع للمتعارف عليه، هو أن تأخذ المغنية في المجموعة مقابلا بسيطا وأن تقبل بتأثيث فضاء الغناء، وأن تؤمن بأن المطالبة بالحقوق الخاصة وبنوع من العدالة مسألة غير مقبولة.
بالعزيمة والمثابرة والكد استطاعت خديجة أن تضع لنفسها خارطة طريق غنية وقوية أن التجربة لم تكن سهلة بالنسبة لتجربة التأصيل لذوق غنائي راق، ولقد ساعدها صوتها على أن تكون فنانة رائدة وقوية على ساحة الأغنية الشعبية، ولم تكن لتحقق مكانتها لولا الكثير من الخسارات والجراح التي تعتبرها ضريبة ضرورية مقابل بناء الذات في حقل يتميز أساسا بالاستغلال والنكران، فلقد صعدت إلى مرحلة النجومية بفضل عشقها الكبير للفن والأغنية، وما الروائع التي أدتها مع محمد رويشة إلا خير دليل على ذلك، ومنها «شكون افهمني-يا رايح»، «لمن غادي نشكي»، «من لحين لحين»، «بين الحقيقة والخيال»، «الوحدانية»، «طل علينا»، «خاب ظني فيك»، «مال الحال ظلام»، «عيون العشاق عنيدة»، «كنت عندي قنديل»، «ماشي بخاطري» وغيرها.
ونستشف من خلال هذه الأعمال الجليلة أن حياة خديجة ملاك الفنية تمثل تاريخا وجدانيا حيا وفنا راقيا وعطاء جميلا، وأغنية «من حين لحين» مثلا، والتي أدتها صحبة الفنان محمد رويشة، حيث مهد إليها هذا الفنان مطلع الأغنية بالموسيقى، وكانت خديجة ملاك تتابع النغم بعينين سابحتين قبل أن تدخل بصوتها الذي أحدث دويا فنيا من تهليل الإعجاب، وعندما يكتفي عشاقها اليوم بوصفها «لبؤة الأطلس» تظل ظاهرة في الغناء الشعبي والأمازيغي يصعب تكرارها في الزمن المنظور، وقد أصبحت خديجة أكثر قربا من الجمهور، وحتى بعض الشباب الذين يريدون وضع أسمائهم على الساحة الفنية يبحثون عن صوت خديجة مثل الفنان مصطفى الشهبوني الذي سوف تكون له الكلمة في المستقبل.
ومن أهم مزايا هذه الفنانة زعامة الصوت، وعندما تسمع خديجة أثناء أدائها تشعر في لحظات عميقة بالنغمة التي تغني، إنها أقدر المغنيات الشعبيات في تأدية نوع من الأغاني مثل: «أيما ايما» التي لقىت نجاحا كبيرا، ويرجع ذلك إلى أن خديجة في بدايتها الفنية كانت تغني على آلات ثابتة سليمة المقامات، لا يرتفع مقام عن مقام أو ينخفض مقام عن مقام وكذلك الصوت مع التعود المستمر يصبح صوتا سليما دقيقا يدخل النغمة التي يغنى منها في دعم المستمع في لحظات ويوفر عليه وعلى المستمعين الوقت الطول الذي يقضيه في سلطنة نفسه ليطرب المستمعين.
فصوت خديجة يغني على مزاجه والمزاج والتي تيسره ليس لها حدود أو قواعد ثابتة، ولذلك أراها أحيانا وهي تؤدي كبرنسيسة في منتهى الأناقة والتهذيب والرفعة فصوتها صوت جامع، وإذا تمكنت من كبح جماحه بالإدارة والتفكير الحسن تصبح شيئا آخر، نبرة حلوة لا صلة لها بأصوات المغنيات الأخريات، لقد استطاعت بأعمالها الجميلة حمل مشعل التراث الفني الأصيل، وسبق لي أن سألت محمد رويشة على هامش حلقة تكريمه في برنامج «مسار» مع عتيق بن شيكر، سألته عن صوت خديجة ملاك؟ فتريث قليلا ثم قال: «صوت خديجة ملاك يضفي على الألحان جمالا، فإذا لم تكن خديجة هي التي تغنيها لا يمكن أن يحس الناس جمالها من أي مغنية أخرى»، وبالفعل منذ أن التقت خديجة بمحمد رويشة تحول خطها الغنائي، نعم لقد قدم لها الجديد اللحني، وصممت على المضي معه إلى أبعد مدى، وعندما ينصت المرء لأغنية «إناس إناس» يحس أنه جائع أمام صحن مليء بالفن الشهي، ونكرر أن خديجة ملاك هبة وموهبة، حملت عظمة جبال الأطلس المتوسط وعنفوان نهر أم الربيع، وستبقى رقيقة كالحرف، بشوشة كالكلمة، نشيطة كالجملة ومقبولة كالنص.
- “بأكادير ..ندوة وطنية تقارب ملف الصحراء المغربية بين الحقائق التاريخية والمشروعية القانونية”
- “تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح ..الأمن الوطني”
- اكادير – إعتداء خطير على عون سلطة أثناء أدائه لمهامه في تحرير الملك العمومي بسيدي يوسف
- تحطم طائرة عسكرية ببنسليمان ..يودي بحياة ضابطين في مهمة تدريبية
- “المحكمة الابتدائية بالجديدة ..تدين الستريمر إلياس المالكي بالسجن والغرامة”
- “أسرة الأمن الوطني ..تحتفي بالتفوق والإبداع في الذكرى 69 لعيد الاستقلال”
- “قلعة مكونة .. جمعية أيت ايحيا لألعاب القوى بين تاريخ رياضي مشرف ووضع متأزم يثير الأسف”
- وزارة الفلاحة تعتزم دعم المزارعين لاستبدال “البوطا” بالطاقة الشمسية
- شنقريحة في قلب فضيحة جديدة بعد تطاوله على الدين الإسلامي
- الملك محمد السادس يظهر بصحة جيدة يتجول في باريس بدون عكاز طبي