كان عبد الله بليندة أول الراحلين، تلاه المهدي فاريا ثم هنري ميشيل صبيحة اليوم الثلاثاء، لتكون بذلك الكرة الوطنية قد ودعت كل المدربين الذين قادوها خلال آخر ثلاث نسخ لكأس العالم شاركت فيها؛ 1986، 1994 و1998.
وعلى غرار قصة البرازيلي، مهدي فاريا، مع أسود الأطلس، ارتبط إسم هنري ميشيل بشكل خاص بالمنتخب المغربي نتيجة اندماجه بسرعة مع الثقافة المغربية وقدرته على خلق جو عائلي وأخوي بين العناصر الوطنية طيلة السنوات الخمسة الأولى التي قضاها على رأس العارضة التقنية.
حط المدرب الفرنسي رحاله بالمغرب سنة 1995 مدججا بسجل غني كلاعب ومدرب، فالرجل صنع أمجاد نادي نانت كلاعب خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فيما قاد المنتخب الفرنسي الأولمبي كمدرب لتذوق ذهبية الألعاب الأولمبية بلوس أنجلس سنة 1984 والمنتخب الفرنسي الأول بعد ذلك لاحتلال الرتبة الثالثة في كأس العالم مكسيكو 1986، مزيحا عن طريقه “برازيل طيلي سانطانا” التي كانت تحصد الأخضر واليابس أنذاك.
أولى إنجازات المدرب الفرنسي مع المغرب كانت نجاحه في تجاوز الدور الأول لنهائيات كأس إفريقيا 1998 ببوركينافاسو، إلا أن مغامرة الأسود توقفت في ربع النهائي أمام جنوب إفريقيا، رغم أن الكل كان يرشح المغرب لحصد لقب البطولة.
إنجاز آخر دون بإسم الراحل هنري ميشيل، ذلك المرتبط بأفضل ترتيب فيفا حققه المنتخب المغربي، حيث تموقع الأسود في المركز العاشر عالميا شهرين فقط قبل انطلاق كأس العالم فرنسا 1998 التي نجح الفرنسي في قيادة الأسود للمشاركة فيها.
دخل المنتخب المغربي نهائيات كأس العالم واثقا من قدراته، مرشحا من طرف كل المتخصصين للمنافسة بقوة على البطاقة الثانية للمجموعة، نتيجة تواجده رفقة المنتخب البرازيلي. العناصر الوطنية لم تخيب التوقعات ونافست إلى آخر رمق عن بطاقة التأهل الثانية، إذ فازت على المنتخب الاسكتلندي في المباراة الختامية بثلاثية نظيفة وظنت أن هذه النتيجة ستخول لها المرور إلى الدور الثاني، إلا أن المفاجأة التي حققتها النرويج على مستوى المباراة الثانية بعدما فازت على البرازيل بهدفين لواحد، أنهت أحلام الأسود وأرغمتهم على العودة للمغرب دون معادلة إنجاز نسخة 1986، رغم أنها قدمت منتوجا كرويا يمكن اعتباره الأرقى مقارنة مع كل حقبات المنتخب الوطني.
الوجه المشرف الذي ظهرت به الكرة الوطنية خلال النهائيات والتعاطف الذي أبداه كل متتبعي الكرة العالمية لم يكن ليمر دون أن ينال قائد السمفونية، هنري ميشيل، بعض المكافآت، حيث منحت للأخير الجنسية المغربية وجددت فيه الثقة لقيادة المنتخب المغربي خلال نهائيات غانا ونيجيريا سنة 2000.
المنتخب المغربي أوقعته القرعة أنذاك في مجموعة البلد المنظم، نيجيريا، رفقة تونس والكونغو، إلا أن مغامرته انتهت مبكرا في الدور الأول بعد حلوله ثالثا في المجموعة خلف نيجيريا وتونس؛ بفارق النسبة الخاصة، لتنتهي بذلك حقبة هنري ميشيل الأولى رفقة الأسود بأسوء طريقة، عاجزا عن تحقيق لقب يثمن الجهود الكبيرة التي بدلها وللعروض المميزة التي كانت تقدمها العناصر الوطنية.
اختار المدرب الفرنسي المغربي بعدها أن يبتعد عن المغرب ويقود بعض الأندية والمنتخبات الإفريقية، قبل أن يشده الحنين إلى المغرب مجددا ويعود من بوابة الرجاء الرياضي، حيث نجح في التعاقد معه أنذاك الرئيس عبد السلام حنات. هنري ميشيل استطاع أن يحقق رفقة النادي الأخضر ما عجز عنه رفقة المنتخب وحصد لقب كأس الكونفدرالية الإفريقية سنة 2003.
وأنهى هنري ميشيل ارتباطه بالنادي الأخضر خلال الموسم الموالي بعدما فشل في مواصلة تحقيق النتائج الإيجابية رفقته، ليقرر مجددا خوض مغامرات إفريقية أخرى؛ كانت أبرزها مع فيلة الكوت ديفوار التي قادها لتكون وصيفة بطل إفريقيا سنة 2006 بمصر.
سنة واحدة بعد ذلك، خاطبت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ود هنري ميشيل ليعود على رأس المنتخب الوطني، طلب قوبل بصدر رحب من الناخب الوطني السابق، ليعمل بعد ذلك على تحضير الأسود لنهائيات كأس إفريقيا 2008 بغانا؛ واجه المنتخب الفرنسي بسان دوني وديا قبل النهائيات بأشهر قليلة في مباراة انتهت بالتعادل الإيجابي 2/2.
المنتخب الوطني في بداية منافسات الكان ضرب بقوة وسحق المنتخب الناميبي بخمسة أهداف لواحد، في مباراة شهدت تألقا واضحا لسفيان العلودي، نجم الرجاء أنذاك الذي وضع ميشيل ثقته فيه ومنحه الأساسية بالرغم من تواجد عدد من المحترفين. تلك المباراة أعادت الثقة مجددا لمشجعي الأسود وجعلت الكل يأمل في إعادة تكوين هنري ميشيل لجيل جديد شبيه بجيل 1998 أو قادر على تحقيق ما عجزوا عنه، إلا أن المباراة الثانية أدخلت الشكوك في النفوس بعد الهزيمة القاسية أمام غينيا بثلاثة أهداف لهدفين، قبل أن تنهي المباراة الأخيرة أمام البلد المنظم، غانا، كل الأحلام.
وجهت الانتقادات بعد هذا الإخفاق لهنري ميشيل، إلا أن الأخير وفي خروج إعلامي له مباشرة بعد الإقصاء وجه اللوم لمدبري الشأن الكروي المغربي، مؤكدا أنذاك أنه لا يمكن تحقيق إنجازات كبرى دون إعطاء الأولوية للعمل القاعدي، ومتهما في نفس السياق بعض الأقلام الصحافية ببيع الأوهام للجمهور المغربي بعد تحقيق النتائج الإيجابية خلال المباريات الودية. تصريح لم يرق كثيرا لبعض المسؤولين الكبار، إلا أن هنري ميشيل أوضح أن جنسيته المغربية تمنحه الحق في النقد والمساهمة في تقديم حلول تنقذ كرة القدم المغربية.
تصريحات ظن الكل أن هنري ميشيل ينوي من خلالها اعتزال التدريب في المغرب، إلا أنه أنهاه على مستوى المنتخب فقط وعاد سنتين بعد ذلك ليشرف على النسر الرجاوي مجددا؛ في مهمة لم تدم طويلا بعد فشله في تحقيق النتائج الإيجابية.
هنري ميشيل سيبقى أحد الأعلام الكروية التي لم تشغل مهمة قيادة السفينة المغربية فقط على مستوى الواجهة، حيث مكنه طول السنوات التي قضاها بالمغرب من التقرب من العقلية المغربية واكتشاف مكامن الخلل والضعف فيها، وهو ما قاده للإدلاء بتلك التصريحات سنة 2008. هي تصريحات تحتوي عبرا ستظل حية رغم وفاة المدرب، مادامت كرتنا تعيش العشوائية على مستوى التكوين والفئات الصغرى وتنتظر فقط ما تجود به جاليتنا المغربية.
