أثارت صورة متداولة عبر المنصات الاجتماعية لأحد الفصول الدراسية المكتظة غضبا واستنكارا واسعين من طرف مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. وأظهرت الصورة التي جرى تداولها على نطاق واسع ، مجموعة من التلاميذ المتزاحمين في حجرة دراسية ، وفي بيان توضيحي صادر عن الأكاديمية الجهوية المعنية، تم تأكيد صحة الصورة ، موضحا أنه تم إيفاد لجنة للبحث والتقصي في عين المكان قصد اتخاذ الإجراءات الإدارية المعمول بها في حق المعنيين بالأمر بعد تحديد المسؤوليات…مثل هذه المشاهد عايناها مرارا وتكرارا حتى عبر القنوات الوطنية ، ولا من حرك ساكنا …إنها إذن ردة فعل مستعجلة من المسؤولين ، ما كانت لتطفو الى السطح لولا الظروف الاستثنائية التي يعيشها الوطن . ويمكن تصنيفها كهبة يقدمها “فيروس كورونا” للمدرسة المغربية ، حيث أفلح فيما أخفق فيه الوزراء المتعاقبون على الشأن التعليمي بخصوص محاربة آفة الاكتظاظ في المدارس…
فمع دنو افتتاح الموسم الدراسي ، وأمام تسجيل أعداد غير مسبوقة من الاصابات بالفيروس ، تناسلت التكهنات بخصوص الحالة التي سيؤول اليها الوضع ، فمن مناد بالتأجيل الى متشبث بسنة بيضاء أو تعليم عن بعد … غير أن الوزير الوصي على القطاع سرعان ما خرج ليقطع الشك باليقين مؤكدا استحالة تأجيل الدخول المدرسي 2020 – 2021، معتبرا أنه “لا يمكن التكهن بتطور الوضعية الوبائية” المرتبطة بالجائحة ، وأن الآثار السلبية لهذا التأجيل على التلاميذ أكثر من الجائحة نفسها، وذلك وفق ما تؤكده الدراسات الدولية واليونسكو والأمم المتحدة”. ومقترحا في نفس الآن مجموعة من الأنماط التربوية التي تستجيب لمختلف فرضيات تطور الحالة الوبائية من أجل تأمين الحق في التعليم والتكوين، على أساس أن يتم اختيار وتطبيق النمط التربوي الأنسب للحالة الوبائية وملاءمته المستمرة مع تطور هذه الوضعية على مدار الموسم الدراسي برمته.هذا وبعدما أقرت وزارة التربية الوطنية في أكثر من بلاغ ، أن التعليم عن بعد هو الأساس ، والتعليم الحضوري سيكون اختياريا، تفاجأ الجميع باختيار جل الأسرفي الحواضر والبوادي التعليم الحضوري لأبنائهم، بنسبة تفوق 80%، حسب تصريح المسؤول المذكور، بالرغم من تسجيل أعداد غير مسبوقة للإصابات ، ما وضع المسؤولين في موقف لا يحسدون عليه. ويبدو أن إقبال أولياء الأمور الكثيف على اختيارهذا النمط ، قد أرغم الوزارة للاعتماد على السيناريو الثاني في جل المناطق كحل وسط .هذا السيناريو الذي يراهن على التفويج ، وحصر العدد في ما لا يتعدى عشرلن متعلما…وبغض النظر عن النواقص التي قد تشوب هذا الاجراء ، فان من حسناته الغاء ظاهرة الاكتظاظ التي أضحت كابوسا يقض مضجع الجميع ـ الأسرة والمتعلم والمعلم والادارة التربوية ـ لسنوات ، بحيث لا تكاد تخلو تقارير المجالس “التعليمية والتربوية و التدبير”من التنبيه لهذه الآفة والمطالبة بالتخفيف من حدتها والمناداة بمعالجتها بمقاربة تربوية وبيداغوجية ، ولكن دون جدوى . خاصة وأن دواعي استفحالها ظلت قائمة تفرض وجودها بقوة ، وفي مقدمتها :التزايد العمراني والنمو الديموغرافي المرتفع الذي تعرفه بعض الأحياء الجديدة،إضافة الىعدم مواكبة وثيرة تزايد الحجرات الدراسية لوثيرة طلب التمدرس وخاصة بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي، ناهيك عن تدفق التلاميذ الموجهين المنقولين من مؤسسات الوسط القروي إلى مؤسسات الاستقبال بالوسط الحضري، و عدم رغبة الآباء في تحويل أبنائهم من مؤسسة إلى أخرى بقصد خلق توازن خاصة داخل نفس القطاع.أما عملية إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة في بداية كل موسم دراسي فذاك موضوع آخر…وبالفعل باشرت بعض المؤسسات مجهودات جبارة بتنسيق مع باقي الشركاء والفاعلين التربويين من أجل معالجة هذه الإكراهات وإيجاد الحلول الناجعة لها ضمانا للسير العادي للدراسة بهذه المؤسسات ، ومن ضمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :ترشيد الموارد البشرية وإعادة انتشار الفائض من المدرسين.وإعادة النظر في قطاعات الروافد بالنسبة لمؤسسات الاستقبال بهدف إحلال التوازن بين المؤسسات المتواجدة بنفس القطاع ،أو الحي أو المنطقة أوحتى على مستوى الجماعة كوحدة ترابية مع تحويل الممدرسين من المؤسسة المكتظة إلى مؤسسة أخرى بها مقاعد شاغرموازاة مع توفير النقل المدرسي للتخفيف من بعض الحالات عن طريق نقل بعض التلاميذ إلى مؤسسة أخرى حيث الإمكانيات متوفرة أو إحداث فضاءات للإيواء بالوسط القروي ضمانا لاستقرار التلاميذ وعدم تدفقهم على مؤسسات أخرى تتواجد بالوسط الحضري …غير أن هذه الاجراءات جميعها لم تف بالمطلوب نظرا لمحدوديتها ، وعسر تعميمها على نطاق واسع ، الشيئ الذي أثر بشكل سلبي على العملية التربوية ككل بدء بالمتعلم مرورا بالمدرس وانتهاء بالمقررات والمناهج . فاذا كانت التوجيهات التربوية المعتمدة، توصي بأن المتعلم في التدريس الفعال ينبغي أن يكون محور العملية التربوية، ، يشارك و يحاوِر ويتواصل أخذا وعطاء، ويناقش مختلف الوضعيات ويحاول تحليلها وفهمها، ويقدم تفسيرات من خلال التفاعل والانتقاد ، وينتقل متدرجا إلى إصدار الأحكام ، فإن ذلك ينتفي نهائيا أمام الكثافة المرتفعة داخل الفصل الدراسي ، ليصبح هاجس المدرس مقتصرا على تقديم الدرس ونقل مضامينه ، مركزا على الكم من خلال الإلقاء ، متجاوزا كرها، الجودة التعليمية الموصى بها، والتي تبقى بعيدة التحقيق في ظل مناخ غير صحي تربويا وتعليميا. والنتيجة هي افتقاده لبيئة سليمة وملائمة تخول له القيام بأنشطة تعليمية متنوعة وإدارة المواقف بالشكل الذي يسعفه على تحقيق الأهداف المرسومة وفق معايير الجودة وأسس النجاعة المرغوب بها، فيغيب التواصل التربوي الحقيقي ، وتستفحل ظاهرة الغش و تتعقد عملية معالجة ثغرات التحصيل الدراسي. مما يحول دون مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين و لمس مواطن الضعف والقوة لديهم ، ناهيك عن غياب التنويع في الأساليب والوسائل والأنشطة التعلمية …وهذه الثغرات جميعها تتسبب في صعوبة مصاحبة المتعثرين منهم لتقويم إنجازاتهم بشكل دقيق و فعال يسمح بالدعم و التقوية . أما التدريس بواسطة الطرق البيداغوجية الحديثة كالعصف الذهني و البيداغوجيا الفارقية والعمل بالمنهج التجريبي في التعامل مع المواد العلمية …فيدخل ضمن سابع المستحيلات…فكيف يمكنه على سبيل المثال تصحيح إنتاجات المتعلمين، وسط فصول مكتظة ، ومن أين له بعملية تقييم نزيه وموضوعي لما يناهز مئات الأوراق مختلفة المحتويات مضمونا وأفكارا وتعبيرا وأسلوبا، خصوصا، تحت ضغط مواعيد إرجاعها ومسك النقط؟إن انعكاسات الظاهرة لا تقتصر على رقعة الفصل بمفرده ، بل تتعداها الى سائر المرافق بما في ذلك مدخل المؤسسة الذي يشهد تدافعا وصراخا وفوضى، وكذا المرافق الصحية التي لم تعد تستجيب لحاجيات الجميع في زمن محدد،.أما مستودعات الألبسة وساحات الرياضة والتربية البدنية فحدث ولا حرج وكل ذلك يساهم في استنزاف جهود الطاقم الاداري والتربوي قصد استتباب النظام … تلك إذن بعض الثغرات الناجمة عن الظاهرة ، والتي وقفت حاجزا أمام تحقيق العديد من الأهداف المسطرة . فهل سيأخذها المسؤولون على محمل الجد، ويبقوا على نمط التفويج مستقبلا ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حل ترقيعي مؤقت قد يتوارى مع تواري الفيروس ؟
ذ: المحجوب سكراني